الأعمال خير تعبير عن الإنسان، من ناحية صفاته وخصاله ومزاياه.
فهي التي تعكس حقيقة ما في نفسه، وما تنطوي عليه دخيلته من الخير أو الشر، والطهارة أو الخبث، والتواضع أو التكبر، وما إلى ذلك من الصفات التي تميز كل إنسان عن غيره.
وتظهر حقيقة أعمال الإنسان أكثر ما تظهر من ناحية ارتكازها على إيمانه بالله، أو كفره به، فإن كان مؤمناً أشاع الخير بين الناس، بينما تنعكس أعمال الكافر عليه شراً ووبالاً.
وكما أن الأعمال هي مرآة للنفس، وتعبير عن العقيدة، أو الفكرة التي يؤمن بها الإنسان، فإنها أيضاً طريقه إلى الآخرة، وسبيله إلى المصير الذي لا مفر منه.
فكيف تتبدى أعمال الكافرين يوم القيامة، حيث يقوم الناس لرب العالمين للحساب؟
لقد ضرب الله تعالى مثلاً على تلك الأعمال بالرماد الذي اشتدت به الريح في يوم عاصف، فبددته هباءً منثوراً. هكذا سوف تكون الأعمال التي يأتيها الكافرون في الحياة الدنيا. يقول سبحانه مبيناً ذلك:
{مثل الذين كفروا بربهم أعمالهم كرماد اشتدت به الريح في يوم عاصف لا يقدرون مما كسبوا على شيء ذلك هو الضلال البعيد} (إبراهيم: 18).
وتظهر الصورة في هذا المثل - مثل سائر صور الأمثال القرآنية - نقية، وجلية: فالرماد هشٌّ وخفيف، لا يقوى على شيء، ولا يصمد أمام أية حركة تحدث فوقه، فكيف إذا فجَأَهُ يوم عاصف، تقتلع رياحه العاتية كل ما يعترض اندفاعها، فإنها لا تكاد تصل إلى الرماد إلا وتذروه جزئيات صغيرة.
ثم تحيل هذه الجزئيات إلى ذرات مبعثرة، وتقذف بها إلى البعيد البعيد، حتى يصير الرماد وكأنه في دنيا العدم، فمثل أعمال الكافرين، كمثل هذا الرماد، مهما تنوعت ومهما كثرت، تبقى بلا أدنى فائدة، أو نفع؛ لوقوعها باطلة في الأصل.
وَفْقاً لميزان العدل الإلهي. وهذا البطلان ينعكس ويلاً وثبوراً على الكافرين يوم الحساب، فلا تنفعهم أعمالهم شيئاً، بل ترتد عليهم خسراناً مبيناً، وعذاباً أليماً، باعتبار أن الفائدة المرجوة من أعمال الإنسان لا تكون إلا بثواب الله العظيم. الذي يكافئ به عباده الصالحين.
وبما أن أعمال الكافرين لا تُقبل يوم الحساب، فإنه لا يكون لهم أدنى ثواب فيها؛ وبذلك تذهب أعمالهم التي قاموا بها في الدنيا أدراج الرياح، كما تذهب الريح في يوم عاصف بالرماد الهش الخفيف. وهذا ما يوجب على الإنسان أن يتبصَّرَه.
عند القيام بأي عمل، سواء تجاه نفسه، أو تجاه الآخرين. فما كان من أعماله خالصاً لله تعالى، موافقاً لشرعه، كان مقبولاً، ونال الثواب عليه. وما كان منها لغير الله تعالى، فهو غير مقبول. وهو لن يذهب هدراً وحسب، بل ويجعل صاحبه وقوداً لنار جهنم المستعرة، حيث يعاني فيها وطأة العذاب الأليم، والعقاب المهين.
ومن لطائف هذا التمثيل، أن اختير له التشبيه بهيئة الرماد المتجمع؛ لأن الرماد أثرٌ لأفضل أعمال الذين كفروا، وأشيعِها بينهم، وهو قِري الضيف، حتى صارت كثرة الرماد كناية في لسانهم عن الكرم.
وقد قال ابن القيم: "وفي تشبيهها بالرماد سر بديع؛ وذلك للتشابه الذي بين أعمالهم وبين الرماد في إحراق النار، وإذهابها لأصل هذا وهذا، فكانت الأعمال التي لغير الله عز وجل وعلى غير مراده طعمة للنار.
وبها تسعر النار على أصحابها، وينشئ الله لهم من أعمالهم الباطلة ناراً وعذاباً، كما ينشئ لأهل الأعمال الموافقة لأمره التي هي خالصة لوجهه من أعمالهم نعيماً وروحاً، فأثَّرت النار في أعمال أولئك حتى جعلتها رماداً، فهم وما يعبدون من دون الله وقود النار".
وقال الرازي في بيان وجه المشابهة بين هذا المثل وبين هذه الأعمال: "إن الريح العاصف تطيِّرُ الرماد، وتفرق أجزاءه، بحيث لا يبقى لذلك الرماد أثر ولا خبر، فكذا ههنا أن كفرهم أبطل أعمالهم، وأحبطها، بحيث لم يبق من تلك الأعمال معهم خبر، ولا أثر".
والغرض الرئيس من هذا المثل، هو أن يقف الإنسان موقف تأمل؛ ليتبين قيمة الأعمال التي يقوم بها، والمصير الذي سوف يؤول إليه؛ وليتبين له الرشد من الغي، وليهتدي إلى طريق الخلاص قبل فوات الأوان.
قال ابن عاشور: "قد أثار هذا التمثيل ما دل عليه الكلام السابق من شدة عذابهم، فيخطر ببالهم، أو ببال من يسمع من المسلمين أن يسأل نفسه أن لهم أعمالاً من الصلة، والمعروف من إطعام الفقراء، ومن عتق رقاب، وقِري ضيوف.
وحمالة ديات، وفداء أسارى، واعتمار، ورفادة الحجيج، فهل يجدون ثواب ذلك؟ وأن المسلمين لما علموا أن ذلك لا ينفع الكافرين، تطلبت نفوسهم وجه الجمع بين وجود عمل صالح، وبين عدم الانتفاع به عند الحاجة إليه، فضُرب هذا المثل لبيان ما يكشف جميع الاحتمالات".
وهذا المثل ينطوي على الخصائص التي تتميز بها أعمال الكفار. فالأعمال التي لا تقوم على قاعدة من الإيمان، ولا تتمسك بالعروة الوثقى التي تصل العمل بالباعث، وتصل الباعث بالله تعالى، تكون مفككة كالهباء والرماد.
لا قِوام لها ولا نظام. فليس المعوَّل عليه إذن هو العمل وحده، ولكن الباعث على العمل هو أهم في التعويل عليه؛ لأن العمل حركة آلية، لا يختلف فيها الإنسان عن الآلة إلا بالباعث والقصد والغاية، فإذا كان الباعث على العمل هو الإيمان، كان جزاؤه في الآخرة فوزاً عظيماً، أما إذا كان الباعث على العمل لا صلة له بالله تعالى.
فإنه يذهب أدراج الرياح، ويؤدي في الآخرة إلى الخسران المبين. ومن هنا كان التعقيب على أعمال الكافرين بقوله تعالى: {ذلك هو الضلال البعيد} (إبراهيم: 18).
أي: الضلال عن إدراك الحقيقة، والضلال عن الإيمان، والضلال حتى عن الصلاح الذاتي؛ لأن نتائج الأعمال الضالة ستنتهي بالخسارة المحتمة التي لا تعوض. والضلال البعيد هو أيضاً الوقوع في المهاوي السحيقة.
المصدر: موقع إسلام ويب